السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
إلي الأخت المبجلة النجيبة : أميرة محمد محمد محمد
بعد التحية و التقدير /
سعدت جدًا أنك أصبحتي طبيب نفسي مقيم بمستشفي عباس حلمي الثاني ... كثيرين دخلوا طب و لكن القلة هي من تجمع ما بين موهبة الكتابة , نعم أعلم أنك لازلتي في بداية الطريق , أو لنقل لازلتي تطرقين الباب في أول الطريق , و لكن اعلمي أننا لن نصل إلى مرحلة نستيقظ فجرًا على صوت الكروان لنكتشف بعد الصلاة أننا أصبحنا "فجأة" مؤهلين للعطاء ... سنظل دائمًا في مرحلة التعلم <====> التعليم في دائرة دائبة لا تنفصل , حالة من التعلم و القاء ما تعلمتيه في اي مكان مؤهل لاستقباله , فلا تنتظري أن تصلي لمرحلة معينة كي تعطي , فالناس يقفون على مراحل و كل مرحلة تأخذ ممن يسبقها و تعطي لمن هو خلفها كي ننهض جميعًا , فلا تحقري أي معروف أيا كان وقته ...
أذكر قصة روتها لي صاحبة , أنها لم ترَ قريب لها سوى مرات معدودة في حياتها حوالي 3 مرات , و تحدث معها مرة واحدة فقط , و لكنها تذكره جيدًا , لماذا ؟ لانه في المرة الوحيدة التي تحث معها قال لها كلامًا جميلًا ترك في نفسها اثرًا طيبًا , قد يكون هو نفسه نسي هذا الحوار , و لكن صديقتي لم تنس قط و ترحمت عليه بشدة عند وفاته ... و ما الإنسان الا ذكرى طيبة يتركها في نفوس من تعامل معهم .
و لا تظني أن هناك مرحلة أهم من أخرى , فالتنظير المجرد مهم , على أن لا ينفصل عن الواقع و يغرق في عالم خاص به , و العمل في الواقع مهم , شريطه عدم التماهي فيه و فقدان البوصلة الأساسية التي من أجلها يقوم كل هذا الواقع و كل العمل ... هي دائمًا مسألة إتزان ... و إدعِ الله دائمًا بقلب صادق أو تصلي إليها , و هوني علي نفسك , فالتقصير و القصور سمت من سماتنا كبشر .
سأقول لك كما كان يقول المستشارين المحيطين يقولون للفاتح المنتصر عند عودته من المعركة و الجميع يستقبله بالورود و الرياحين : أنت فقط مجرد رجل ... ساقولها لك , أنت مجرد فتاة , و لكني لن أتماهي في التحقير من النفس حتي نصل أن لا نفعل شئ أو لا نعرف مكامن قوانا و ضعفنا , فلنعلم دائمًا مواطن قصورنا , و لكن لنعلم أيضًا ان الله إستخلفنا في المكان الذي وضعنا فيه , و المواهب التي أداها إليها , حتي لو كانت مجرد كلمة محملة بمعني ينفذ للقلوب , فهي أمانة و استخلاف .
أمس , فكرت في جملتك و أنا اؤدي بعض المهام , و تبسمت لأني أقرا حاليًا في مدرسة فرانكفورت و إيمانهم بضرورة وجود عالم للنفس ليشرح طبيعة الجماهير و يتفهم دوافعهم و لا يقفون موقف المُنَظّر الفوقي , تبسمت لإتجاهك لهذا التخصص الهام . و أرجو ان يوفق الله كل من اوتو نصيبًا من الحكمة أن يتجهوا إليه ... فهو هام للغاية بالفعل . تبسمت لأني تخيلتك تكتبي Text Book و تضعي فيه نظريات ثورية تمامًا , و لكني نبذت فكرة الtext book جانبًا و قلت أنت سوفت تكتبينه بالعربية , و بلغة أدبية سهلة و محببة للنفس , تمزجين فيها الأدب بالعلم بالنظريات بالتأملات ... فسيكون شئ جديد بالفعل لا توصيف سابق له . لا يوجد شئ ببعيد ... العمل و الصبر و بذل الجهد في المكان الصحيح هم المفتايح المعروفة و التي لا يجسر عليها الكثيرين .
أريدك من خلال عملك الجديد أن تنتهجي منهجين متلازمين , يسيران جنبًا إلي جنب كشريط القطار , و تنتقلي ببراعة بينهما , الاول هو المنهج الاستيعابي , فحاولي أن تتعرفي علي دوافع مريضك و تتعمقي في اسلوبه في تناول الأمور ... تعمق حقيقي و ليس تعمق فوقي , تحاولي ان ترتدي نظارته الشخصية التي يري من خلالها الامور و الحياة . انغمسي فيها انغماسًا دون وجود اي تحيزات مسبقة . سيساعدك هذا الامر في فهمه كإنسان مجرد من كل التحيزات الأيديولوجية , ستعرفين أن كثير من قراراته هي مجرد ردود أفعال لما يحدث له , و للسلسلة و الاسلوب الذي يفكر به .
المنهج الآخر هو أنك تضعي كل ما توصلتي إليه عند إرتدائك لنظارته في ميزان تحليلي دقيق ( و ليس نقديًا ) لتعرفي ما هي الحلقة الضعيفة الهشة التي لو غيرناها بالفعل لتغير الامر كله , الحلقة تكون في تفكيره , أو في فهمه للأمور ...أو في اي شئ آخر ... إيجاد تلك الحلقة هي ما تميز الطبيب النفسي الناجح و آخر يطبق نظريات سالفة الذكر وضعت في حيز ثقافي آخر بحذافيرها علينا دون فهم حقيقي لنفسية من هو أمامه ... النماذج السابقة الموضوعه في مدارسة الطب النفسي الغربي تعطينا مؤشرات .. و لكنها ليست كل شئ . فهناك عوامل كثيرة خاصة بنا , الحاذق هو من يتعرف عليها و يستخرجها كما يُستخرج عرق الذهب من وسط الصخور .
يمكنك ان تضعي نظريات نقدية فيما بعد "لك انت " علي الورق , لتحللي أفات هذا المجتمع , و لكن لا تواجهي الأفراد المساكين بها , فهم مفعول بهم و مغلوبين علي أمرهم و في حاجة لمساندة و في أضعف حالاتهم و ليسوا فاعلين . انما المناهج النقدية توضع ليتولي الممسكين بدفة الأمور و مقاليد الفعل التغيير الإيجابي , و لانني أعرف ان هذا لن يحدث في مصرنا الحزين في المستقبل القريب , فلتضعيه ليكون منبر استرشادي لمن سيأتي بعدنا ليفهم كيف وصلت الامور لتلك الصورة القاتمة .
ارجو أن لا اكون قد اطلت عليك عزيزتي ... و اتمني لك الخير كله عاجله و آجله ... دمت برعاية و حفظ من الله .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق