الغرور قد يكون الاعتداد بالرأي الشديد أو الإعجاب به وإعطاءه أكبر من حجمه. قد يكون من التغرير أنه الانخداع. أيا ما كان فللأسف تلك العقلية نقابلها كثيرًا حولنا. سماتها واحدة وتبدياتها تقريبًا تشمل كل شيء وتتسبب في مشاكل كثيرة قد لا نفطن إليها.
تتميز نفسية الغرور بضيق الأفق، مع الاعتداد الشديد المبالغ فيه بالرأي.
تقابل النقد بشكل شخصي ولا تتعامل معه بموضوعية (تعتبره هجومًا على الشخص أو قدحًا في القدرات العقلية التي استنتجت هذا الرأي) وعليه تنبري للدفاع عن نفسها بدلًا من التفكر فعلًا في النقد بشكل منطقي. عدم الاعتراف بالضعف الإنساني الطبيعي يولد كبرًا في الاتجاه المضاد تجد مبالغة في التمسك ببعض الأشياء قد لا يفعلها أصحاب الأشياء الأصليين فقط ليثبتوا لأنفسهم قوتهم المزعومة.
تلك النفسية ليست دائمًا ناتجة عن قلة علم؛ قد يكون نابغة حقيقيًا في مجاله. لكنه لا يملك النظرة الكلية والمرونة الكافية للنظر بشكل مختلف عما اعتاده.
في مقابل تلك النفسية تكون نفسية الحكمة. هي واسعة الأفق وواثقة من نفسها لتعترف بمحدودية قدراتها الإنسانية، لذا فالنقد الموضوعي الحقيقي لا يضايقها ولا تستشعر فيه الإهانة، بل تتفكر فيه وقد يجعلها تتقدم وتتحسن، الاعتراف بضعفه هو سر قوته وثباته.
لا يشعر بأن الجميع يترصد له؛ فيستطيع التفريق متى يستمع للنقد ومتى يكون مجرد ضغائن من الطرف الآخر لا معنى لها. قد لا يكون غزير العلم ولكنه يعرف كيف يستفيد من كل ما يعرفه ويوظفه. ينظر للأمر بتكاملية حقيقية وعنده استعداد للتطوير دائمًا.
تتبدى نفسية الغرور في كثير من حياتنا. قد لا ننتبه لسلوكها لأننا قد اعتدنا على تلك السلوكيات، أو لأننا لا ندرك تأثيراتها المتراكمة السلبية.
نفسية الغرور في التعامل قد تتبدى في السخرية المَرَضية من كل ما هو غير مألوف عما اعتاده البعض! نعم، السخرية هو تعبير عن التعجب وهو أنه كيف تجرؤ أن تخالفنا؟
يمكن ملاحظة ذلك بشدة في المجتمع المصري عندما تكون هناك سخرية ما من من لهجات بعض المحافظات لسكان المحافظات الأخرى. هو شيء مألوف للأسف ولكنه غير أنه يوغر الصدور يعبرعن التشبث الشديد بما يعرفه البعض ولا يقبلونه بغيره.
يمكن أيضًا ملاحظة عقلية الغرور التي ينتهجها البعض في لي ألسنتهم باللكنة الإنجليزية بشكل يجعلهم أضحوكة بدلًا من الحديث بشكل سوي مفهوم. تجدهم يبالغون في محاكاة الغرب في إنجليزيتهم، وقد يتعدى الأمر لبعض المصريين في محاكاة بعض اللهجات العربية في البلدان التي يعملون فيها أو يشاهدون فنونهم. يمكن مقارنة سلوك السخرية من اللكنات/ اللهجات المختلفة أو المبالغة في اللغة/ اللكنة التي قد يعتبرها البعض الأقوى بنفس الموقف إن تعرض له بعض الغرب.
أذكر أني كنت في مؤتمر وكنت سأقول مداخلة بالإنجليزية هي مفهومة ولكن ليست بلكنتهم، فقال لي رئيس المحاضرة إنجليزيتك مهما كانت ستكون أفضل من عربيتي! فشعرت بأني لابد أن أمتلئ ولا أشعر بالحرج طالما الأساسيات واللغة مفهومة.
- نفسية الغرور في النظرة للمجتمع:
تلك النفسية قد تكون في الشباب حديث السن أكثر، وهي لها مبررها؛ فنحن نعيش فعلًا في مجتمعات غالبية عاداتها وتقاليدها بالية لا معنى ولا مبرر لها.
ولكن ربما يقع بعض الشباب فيما ينتقدونه من حيث لا يحتسبون؛ فقد يرفضون الشيء لمجرد أن المجتمع يفعله، ولا يعملون عقولهم في أسباب فعل الناس لهذه الأشياء. الاكتفاء بالرؤية المختزلة عن أن المجتمع جاهل إذن فكل ما يفعله تخلف هو نوع من تسطيح الأمور. ليكون الرفض ناتجًا عن نفسية حكمة وليست نفسية غرور لابد أن نتفكر: لماذا يفعل الناس هذا الأمر؟
ربما يكون لفعل الناس لهذا الأمر شيء مناسب لي وربما لا. الرفض لابد أن يكون بأسباب وليس مجرد رد فعل لما كان يحدث بدعوى التجديد وكسر الأصنام. الفهم لابد أن يأتي أولًا.
هناك شكل آخر من نفسيات الغرور يمكننا أن نسميها مجازًا نفسية الغرور الطبية. يمكنها أن تتبدى في الاعتداد الشديد بما درسه الطلبة في كلية الطب وعدم تقبل أي شيء خارج المنهج. العقلية الطبية الحقيقية هي عقلية مرنة وتبحث عن الحل دائمًا، ليست عقلية متلقية صماء.
للأسف لأننا في دولة نامية في كل المجالات (بما فيها الطب) فكان الاكتفاء بالاطلاع على ما وصل الغرب إليه. ثم تقديس ما جاء في الكتاب وعدم الاطلاع على مدارس طبية عديدة. طبعًا أعلم المناهج الميلية (تقاس بالميل) من طولها ولا أطالب بإطالتها، فقط لتكن هناك مرونة في تلك العقلية.
فمثلًا إن كانت هناك وصفة شعبية ما تستخدم لعلاج مرض معين لا يجب السخرية منها لأنها تقليدية أو لأن ال TEXT BOOK لم يذكرها أو يشر إليها. الطبيب الحقيقي هو ما يسير مع العلاج الناجع ويعرف ما هو سببه الطبي الذي أدى لتلك النتيجة. بالملاحظة ومراجعة أصل الأشياء يمكن أن نفهم لماذا يحدث ذلك. ويمكن تفنيد الوصفات الشعبية لوصفات حقيقية لها أساس ووصفات خزعبلية فعلا. لا يجب السخرية مما لا نعرف، ولكن لنضع كل شيء في التجربة ولنحصل النتائج.
- نفسية الغرور العلمية:
هي التي تسخر من المبتدئين أو من يتساءلون عن بدايات الشيء. نعم قد يكون المرء من الراسخين في العلم وقد يتم سؤاله سؤالًا أقل من مستواه. ولكن الترفع عن الإجابة هو نوع من الغرور بحجة أن العلم ليس للجميع. العلم من المفترض أن يُعرض للجميع، والمؤهل يمكنه أن يجاريك. قد يخاف البعض من عرض العلم خوفًا من الإحراج ولكن الراسخ في العلم فعلًا لا يخاف. بعض الأطباء يتعالون أو يضيقون ذرعًا بالمرضى إن سألوهم أو طلبوا منهم احترام عقلياتهم في عرض المرض. قد يكون لبعض المرضى خلفية طبية يمكن أن يخفف أو يختصر السكة على الطبيب/ الحكيم الحقيقي. تلك العقلية للأسف تنتشر أيضًا في أوساط الفقهاء (وقد ألتمس لهم بعض الحق لأن هناك تجرؤًا مبالغًا فيه على العلم الديني بشكل خاص) ولكن الجفاء في التعامل وعدم عرض العلم قد ينفر الباحثين الحقيقيين وقد يبعدهم عن بداية الطريق الذي يبحثون عنه.
نفسية الحكمة:
معكوس كل تلك الأفعال هي نفسية الحكمة. تلك النفسية الهادئة التي تستمد قوتها من الاعتراف بضعفها فتتفتح دائمًا على الجديد ويكون لديها الشغف للتعلم والسعادة في استيعاب الغير وتعليمهم بصدق. نفسية الحكمة لن تتعامل بسخرية مع اللكنات المختلفة عنها ولكنها ستحاول معرفة ما يميز كل لكنة/ لهجة عنها، كما أنها لن تمتهن نفسها عندما تتحدث لغة أخرى غير لغتها الأم.
نفسية الحكمة لن ترفض القديم فقط لأنه قديم ولكن لأنها تدرك جيدًا ما هي وماذا تريد وما يريحها وما لا يريحها، فرفضها لا يكون مجرد رد فعل ولكن رفض حقيقي. نفسية الحكمة نفسية لا حد لها للتعلم وتُخضِع كل ما يمر عليها للتجربة. هي لا ترفض علاجًا تقليديًا لمجرد أنها لم تدرسه في الكلية، ولكن تحاول البحث (التجربة إن أمكن) لتختبر العلاجات الجديدة.
نفسية الحكمة تحلل وتفهم كل ما في بيئتها، لأنها تؤمن أن كل لكل داء دواء من بيئته.
نفسية الحكمة لا تتعالى بالعلم الذي تملكه، بل تحاول أن تشرح للجميع ما تعرفه وتبسطه قدر الإمكان وتزكي عن علمها. ترشد من يريد الإرشاد ولا تتعالى بعلمها أبدًا لأنها تعرف أنه فوق كل ذي علم عليم. نفسية الحكمة لا تسخر من الأصغر سنًا منها ممن يمرون بتجارب وخبرات إنسانية مرت هي بها في مرحلة متقدمة من حياتها، بل تحترف تفاعل الناس مع ما يظنونه نهاية العالم وهو بالنسبة لها قطرة صغيرة فيما مرت به، ولكنها تحترمهم وتقدم لهم الدعم الحقيقي دون تسفيه (هو انتو لسه شوفتوا حاجة – لما كنا في سنك كنا بنعمل أكتر من كدا انتو جيل متدلع).
وقديمًا قيل من كثر علمه قل إنكاره، وأضيف أنه اتسعت قدرته على الاستيعاب.
أعرف أن مجتمعاتنا مفلسة وقلة ممن يتمتعون بتلك السمات النبيلة. ولكن ليحاول كل منا على قدر طاقته أن يتجاوز ويعطي أو يصحح بعضًا من نفسية الغرور بداخله. ففاقد الشيء قد يستطيع أن يعطيه، وهنا يكمن تجاوز الإنسان لظروفه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق