السبت، 30 نوفمبر 2013

الحب الأخوى 2- هند و د. محمد أبو زيد


تختلف تلك الحكاية في أني قريبة كثيرًا من طرفيها , كما ان المفقود فيها الأخ و ليست الأخت , كما أن الأمر اخف وطأه لان الأخ لم يزل علي قيد الحياة ...
لكنا لسنا نقيم هنا ما هي التجربة الأصعب قدر ما احب ان القي الضوء علي تميز تلك العلاقة الأخوية ...

عرفت هند في ظروف غريبة دون ترتيب , و كعادتي في الصداقات لا تنمو سريعًا و لكنها تأخذ وقتها حتي تكبر و تزهر و تثمر ... و شاء الله أن اقترب منها و من عائلتها , تعلمت منها الكثير فهي نموذج يختلف عني كثيرًا و ازعم أنها كانت اكثر صبرًا مني كي تقدح شرارة الصداقة الأولى ...
لأن هذا العالم صغير , فقد كنت أعرف أخاها منذ عام 2008 من خلال التدوين , كان صاحب مدونة دكتور حر , و لكن لم أربط تلك المعلومة بأن هذا الدكتور هو أخو هند الا عندما عرفت بنبأ إعتقاله و من مدون آخر هو عصفور المدينة و هو يعرفه بشخصه و أشهد له بحسن اللسان و دماثة الخلق علي ما ظهر لي .  

كنا نتناقش كثيرًا نقاشات حادة في جدوى البقاء في جماعة عفي علي قادتها الزمن , و لكنا كنا نحتفظ بخط رفيع كان يقوى مع الوقت لنضج خلافاتنا ... كانت تذكر لي أن أخاها الأكبر ( الذي تكن له معزة خاصة فهو أب روحي لها و علمها الكثير بعد وفاة والدها رحمه الله ) يظل فقط في الجماعة في شقها الدعوي لكنه مختلف معها كثيرًا سياسيًا , فما يفعله هو فقط تحفيظ القرآن للأطفال في المسجد .

 و هو من حفظ القرآن على يد  والده و ليس شيخًا فهو افضلهم حفظًا - هي و كل اخواتها من حملة كتاب الله - و كان يؤم المصلين في رابعة في صلاة العشاء في إعتصام رابعة و كان هذب الصوت ... كانت تحكي لي عنه  وسط كلامها عنه كل حين و آخر . و لكن لم تبد كم هي متميزة علاقتها بأخيها إلا بعد ظرف الإعتقال البئيس ( فك الله أسره في اسرع وقت و رده لأسرته ) 


 المسيرة التي قُبض عليه منها قد تم الإعتداء عليها , و شُج رأسه و إضطر للذهاب لمستشفي النيل بشبرا الخيمة ( محطة المؤسسة ) لخياطتها , تم إعتقاله بعد أن نزع منه المخبرين المحاليل أو حاول هو الهرب و لم يتمكن من الإصابه .

كان هذا في اثناء الإعتصام , أمضى ما تبقي من رمضان حتي يومنا هذا يتم التجديد له 45 يومًا في 45 يومًا , تحت رعاية القانون البغيض انه لا يوجد حد أقصى للحبس علي ذمة القضية ! كانت تحي لي بمنتهي الوجع عن كل الفترات التي مرت عليها فيه , بدء من إخبارها بموضوع اعتقاله نفسه ( و كانت تظن أنه استشهد و يكتموا عليها الخبر و لم تتأكد الا بعد أن سمعت صوته بنفسها في المحمول ) , و مرورًا بأحداث عديدة , منها عيد ميلاد إبنتها الاول الذي لم يشهده , و عيد ميلاد الأول لابناؤه التوؤم ( فتاتان ) و زواج أخيه , و كتب كتاب أخت زوج هند ... هم اسرة مترابطة بشدة و كان أخوها الأكبر مصدر عطف و سند للجميع ... لمحت نبرة الحزن تتسلل إليها شيئأ فشيئا و كانت تتخلف عن حضور خروجاتنا الموسمية و قالت لي انا لا اريد ان اقابل اي شئ و لن اخرج و لن اتمتع بشئ طول ما اخي في الاسر ... حتي عندما حضرت مقابلتنا الأخيرة كانت هناك نظرة حزن و إنكسار غريب في عينيها حتي و إن حاولت الضحك , أعرف تلك النظرات التى تفرض نفسها علي الوج مهما حاولنا إخفاؤها بقناع من التبسم الزائف . هي انعكاس لحزن و كسرة الروح أكثر منها اي شئ آخر .

كنت ازورها في منزلها يومًا ما فأخرتني أنها رتبت زيارة استثنائية له , اسطحبت معها زوجته و ذهبا . كم كانت تمتلئ حماس عندما تتحدث عن زياراتها له , رغم انهم قد ينتظروا اكثر من 7 ساعات حتي ينعموا ب 10 دقائق فقط ( قمة في الذل و الهوان ) إلي جانب النوعية الغريبة من ذوي المساجين الجنائيين ( فقد تعلموا الدرس و اصبحوا يلفقون إليهم تهم جنائية حتي لا يكون هناك مسجونين سياسيين ) و هذا امعان في التنكيل بهم حتي لا يحتجزوهم وحدهم و لكن يتم ذلك مع جنائيين ... و ما ادراك ما معني الحبس مع مساجين جنائيين !!!

من ضمن القصص التي روتها لي عن السجن الجنائي , ان صديق اخاها تم وضعه في الحجز , كان معه من يضرب حقن مخدرات علي هيئة امبولات ... و لكن يتم الوشايه عليهم للمأمور فيدخل ليوسعهم ضربًا حتى يعترفوا .
فكيف كان يخبئها المسجون ؟ كان يضعها في فمه حتي ان فتشه المأمور لم يجد شئ , فكان المأمور يعرف انهم يخبئونها في افواههم , فكان يطلب منهم ان يفتحوا فهمهم , فما كان منهم الا أن يبتلعوا الامبول , و يظهر انه لا يوجد شئ معهم . ثم فيما بعد تخرج الانبولة في فضلاتهم و يبحثون في البراز و يستخرجونها و يضربوا الأنبولة !!! كان صديق اخاها يبكي من هول ما يرى في الحجز !!!

موقف آخر تعرضت له , من أهل المعتقلين الجنائيين ... سوف أنقله عنها 


 هاعترف لكم بشئ خطير ..
أنا "اتعلم عليا" فى السجن النهارده  آه والله خليفة ومحمد قالولى كده 

واحدة جايه زيارة لقريبها ولا جوزها .. شكلها هيا كمان رد سجون .. وشكلها حقيقة لم اعرف له شبيه الا فى المسلسلات ولم اتعامل معه قبل ذلك
فيه مكان محدود للانتظار قبل الدخول للتفتيش الأخير فى الزيارة نقعد فيه فى منطقة كلها شمس وحر فظيع الا جزء بسيط فيه ظل وفيه زى مكان للجلوس .. 
الاخت الفاضلة دى حطت الشنط بتاعتها واكياس هتدخلها للزياره فى جزء كبير من المكان اللى فيه ظل ده .. والوقفة كانت هتطول ويقين بتعيط ولازم اقعد بيها .. سالت الشنط دى تبع مين محدش رد .. رحت شلتها نزلتها وقعدت  وعينكو ما تشوف إلا النور
فوجئت بعاصفة جايه من ورايا كلمات لم اتبينها .. او تبينتها وبستعبط  .. المهم يعنى بتقول مين مش عارفه ايه اللى شالت الشنط .. وبلا بلا بلا 
الواحد بقى كان فاكر نفسه هيعرف يصد ويرد فى المواقف دى الحقيقة انا اتلفت شفت بس شكلها ومع الصوت "بُهِتّ"  .. لسه هقولها حضرتك بس انا البنت كانت بتعيط......
مخلتنيش اكمل ..
لولا رحمة ربنا بيا ان السجان نادى اسم الزيارة بتاعتها فى نفس اللحظة فأخدت الشنط ومشيت وهيا بتكمل برطمة ..

خليفة ومحمد كانو بعيد عنى بعشرين متر كده .. بس سمعوها يعنى 
بعدها خليفة جاى مبسوط اوى وبيقوللى بس علّمت عليكى 
وبيقول لمحمد الحق مراتك بيقوله طب وانا ممكن اعملها ايه  ... والاتنين آثروا السلامة وسابونى وجم يضحكو بعد ما مشيت ... 
حتى أمى كانت جنبى ما سمعتهاش قالتلها حاجة يعنى .. كله باعنى .. الموقف كان صعب .. الفض كان أرحم 

#توب_علينا_يا_رب_احنا_بنقابل_حاجات_اصعب_من_القمع_بكتير
طبعا لكم ان تتخيلوا نوعية السجناء الذي يتصرف ذويهم بمثل تلك الطريقة !!! لكن كل تلك المواقف لم تكن تزيدها الا عندًا و اصرارًا على زيارة اخاها كات تعاني بشدة خاصة مع وجود طفلة رضيعة معها لا تسير وحدها ( لابد من حملها دومًا ) . و لم يكن الأمر في ارهاق الزيارة و طول الانتظار ليظفروا بدقائق معدودات , و لكنها كانت دومًا تحرص علي نقل كل ما يحدث لأخيها علي الفيس !! اي من يذكره بمدح او اي سيرة إن كانت تنقل له كل شئ مكتوب بخط يدها ولا تكل ولا تمل . ذكرت لي في مرة أنها نقلت مقال كامل لي كنت قد كتبته من وحي موقف كانت قد حكته عنه . فنقلت المقال كاملًا و هو يزيد عن 900 كلمة غير بقية ما يحدث و أهم الأخبار . كانت تلك النشرة التي تكتبها بمثابة العين الخارجية التي يطل اخاها و رفاقه علي العالم الخارجي . فقد قالت لي انه يتبادل ما تكتبه إن كان غير شخصي مع رفاقه ... كما ان مصحفها الذي اعطته اياه هو ما يحفظ منه الاخرين و تم ختم فيه القرآن مرات كثيرة . كان قد طلب من زوجته كتاب ليذاكر فيه و صورة لأبنائه إلي جوار مصحف اخته ... و هذه هي اهتماماته في الحياة .
لم تكن هي فقط من تجله و تقدره و تحبه كل هذاالحب , فكان زوجهاايضًا يحبه بشدة ولا يذكره الا بأفضل ما يكون , ليس من باب المجاملة فهذا الامر ادركه جيدًا ... كما أن صديقه مهندس محمد شلبي صاحب عصفور المدينة لم يترك مناسبة - حتي علي موقع آسك - الا اشاد به بشكل عظيم  .

انا فعلا سعيدة ان رأيت و عايشت مثل تلك العلاقة الأخوية الجميلة جدًا و المتميزة . أشعر ان العالم لا يزال بخير طالما وجدت تلك النماذج المضيئة ( على قلتها ) أدعو الله ان يفرح قلبها و يفك اسر اخاها عاجلًا غير آجل .  

أختم كلامي عن هذه العلاقة المتميزة بهذه الخاطرة لصديقتي التي بنيت عليها مقالي المنقول بخط اليد 

فى زيارتنا الأخيرة لأخى فى سجن القناطر .. وانا واقفة فى طابور عظيم كده قدام بوابات السجن وكنت لوحدى .. ومن ورائى ومن خلفى وعن يمينى وعن شمالى أهالى مسجونين جنائيين .. قتل على سرقة على "بودرة" على بلطجة بجد مش البلطجة الكيوت بتاعتنا .. واهالى ما شاء الله ما يتخيروش عن قرايبهم اللى جوه .. حصل خناقة بين البنت اللى قدامى والست اللى على يمينى .. وسمعت كم من الالفاظ اول مرة اسمعها .. وشتيمة ما شفتهاش قبل كده غير مكتوبة وعمرى ما تخيلت بنت تقولها .. والمهم بعد شويه تطنيش اضطريت اعيش دور المصلح وحاولت اهديهم لما الموضوع اطور للضرب لواحدة تتحمس وتطلع مطواة ولا موس من بقها وييجى فيا بحكم الموقع ..
المهم الموقف ده واللى بيتكرر اسبوعيا خلانى افكر ان المحنة دى على شدتها .. قربتنا من فئات من الشعب كنا بعيدين عنهم جدا كإخوان يعنى .. فيه ناس عادية جدا ولا حتى بتفكر لا فى سياسة ولا الدين واخد المساحة اللى هيا فى حياتهم واتاخدوا مع ناس فى المظاهرات كده بالغلط من الشوارع .. الناس دى احتكت بالاخوان فى السجون ومتأثرين بيهم جوه بالذات جدا .. وبدأو يعرفوهم عن قرب مش كلام تليفزيون ولا ناس 
وفى الأهالى ادينا بنقابل جنائى كل يوم .. قبل كده كان المعتقلين السياسيين بيبقوا لوحدهم وزياراتهم لوحدهم .. دلوقتى بقينا كله سوا نيجى ندخل الموظفين بعضهم يقول الناس النضيفة جت اهى .. وبعضهم يقول الجماعة بتوع ربنا اهم .. وبعضهم يستلطف ويقول خلاص الجنائى خلص داخلين على الارهابيين 
فى ساحات الانتظار بقو يسألونا انتو ايه اللى جابكو هنا ؟ ونتكلم مع واحدة ابنها تاجر مخدرات وواحدة جوزها حرامى وواحدة اختها قتلت جوزها ونشوف العجب فعلا .. 
فى الشوارع كمان فى المسيرات الاخوان بقيت اشوف فيهم ناس محترمة كده وكبّارة  بيلف فى دواير مع الاولتراس وبيعمل بايده يمين وشمال معاهم وبيتخلى عن وقاره كده  .. وشفت ستات اربيعينيات وخمسينيات منتقبات ومختمرات بيغنو ماسك شمروخ وبحب مورسييييييي  .. بدل ما مسيراتنا كلها كانت قطعية حجاب واحدة بقينا نشوف ناس غيرنا جنبنا كتير .. وده كويس وانا شخصيا كنت بفتقده ..اللى بطرح عادية واللى بطرح قصيرة واللى من غير حجاب خالص .. وما بقاش فيه استهجان زى الاول .. لا المنتقبة بتجيب اللى بشعرها من فوق لتحت ولا اللى متبرجة بتستحقر اللى مغطية وشها .. 
حاسه ان بعد ما الانقلاب ده يواريه التراب قريبا ان شاء الله هنكون اتعلمنا كتير مش بس على المستوى السياسى لأ على المستوى الاجتماعى .. ودوايرنا كإخوان كبرت واتغيرت نوعيتها .. وحاسه ان ده بداية حاجة كويسة جايه لان بجد فيه ناس عمرى ما تخيلت اننا نوصلهم ونعرف نتكلم معاهم والانقلاب خلى ده يحصل ..
سبحان من جعل لنا فى قلب المحن منح .. وفى قلب الظلام بشريات 

تحديث ... كتبت هند في أول أيام عام 2014 هذا الكلام الرائع , لابد من توثيقه 

وأنا أحب محمد أبوزيد فوق حب الأخت لأخيها .. وحبها لأبيها أو من قام مقامه من بعده ..
أحبه حب من كان رجلًا بحقّ فلم يتسلط على بنت فى بيته يومًا و كان بإمكانه أن يفعل .. فليس من عادته أن يأمر وينهى على ما يستحق ومالا يستحق ويفعل ما يستطيع فى البيت بنفسه قبل أن يفكر فى إجهاد أحد بطلباته ..
لم يجبرنى يومًا على فعل شئ لا أحبه .. ولم يمنعنى يومًا من فعل شئ أحبه ..
وكان يناقشنى فيأخذ منى ويردّ .. وحتى فى أمر زواجى قال لى يومًا أنا أثق فى عقلك .. وأعلم أنك ستختارين جيدًا .. ولم يشأ أن يقول لى رأيه فى حبيبى قبل أن آخذ قرارى حتى لا يوجهنى .. ووعدنى بأن يقوله لى بعد فترة بدون تغيير .. فقط حتى لا يؤثر على قرارى المبدأى .. ولأن رأيه فيه كان لا يتعلق بخلُق أو دين .. حتى صارا بعدها صديقين قريبين فوق ما كنت أتوقع فكان فى ذلك سعادتى الغامرة .. وتمتعت أنا بزوجٍ حبيب وأخٍ قريب وصديقين مقرّبين !
هذا أخى منذ زمنٍ كان يساعدنى على وضع خططى السنوية .. ويقترح عليّ .. وكان أقدر الناس على فهمى فى فترات طويلة .. وخاصة كلما كبُرت .. ويساعدنى فى كل خطة للعمل الدعوى الخاص بالكلية فى بداية كل ترم دراسى ..ويخصّنى بأوراقه القديمة وما ينفع منها .. فكان فوق إعانته للبيت على أمر الدنيا يعيينى فى أمور الدين
محمد هو من علمنى صغيرةً كيف أتدبر القرآن . وقفاته فى القراءة فى المصحف ونبرات صوته وهو يقرأ كانت الأقدر على النفاذ لقلبى .. وأكثر من أحب أن أصلى خلفه بين شيوخ الأرض ... رغم أن كثيرين يؤمنون بـأن طبال الحيّ لا يُطرب .. والشيخ البعيد سرّه باتع .. لكنه غير ..
لا زال فى كل رسالة يرسلها يمتعنى بفهم جديد لآية وأخرى .. ويؤكد لى فى رؤيته لأمور الحياة ما رأيته فيه دومًا أن الله سيهيئ له أمر خير فيستخدمه فى الدنيا وأرجو أن يكون من أهل الجنة فى الآخرة .. ولا ينسى أن يبدأ رسالته بأختى المسكرة وينهيها بأخوكى المسكر ... فلا يضع اعتبارات "خنيقة" لعلاقتى بأخ يكبرنى بست أعوام لم يُشعرنى بها يومًا .. ولم أتوقف أنا عن رؤيته بعين الإكبار والحب العميق يومًا ..
أثق أنه شرع الآن خلف جدران زنزانته فى وضع خطة سنوية طموحة ككل عام .. يرسل منها ما يمكن تحقيقه فى الخارج ولا يستلزم وجوده ... ويحقق منها أقصى ما يستطيع فى الداخل حتى وإن كانت حدود استطاعته أربع جدران كئيبة بأمر ظالم .. وأنه مع ذلك لا زال فى كل يوم ينتظر الفرج وكله ثقة وتفاؤل بأن القادم أفضل .. وأن أمر الله فيه بين الكاف والنون .. وأنه لا يعلّق آمالًا على أحد إلا الله
أخى طبت وطاب سعيك وتبوّأت من الجنة منزلًا ..

 
اللهم فك كربهما ووسع عليهما و عوض صبرهما خيرًا