كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ( 110 ) آل عمران
وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) هود
===============================
الآيه الأولى تذكر أن الخيرية مرتبطة بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الإيمان بالله ... فهي ليست مطلقة و لكنها مشروطة بأفعال معينة
في الآيه الثانية يقرن الله منع الهلاك بأن يكون أهل البلدة مصلحون , و ليسوا صالحين في انفسهم و لكنهم المصلحون الذين يقاومون الفساد . فهناك حديث آخر يقول : أن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت : يا رسول الله ، أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : نعم ، إذا كثر الخبث .
================================
سُئلت قريبًا سؤالا من أصعب الأسئلة التي أؤجل مواجهتها دائمًا .كيف يمكن أن آمر بالمعروف و أنه عن المنكر و هو حولنا كثير , بدء من الألفاظ البذيئة التي اضحت طبيعية مرورًا بملابس الفتيات السيئة من ما إلى ذلك . من سأتني كانت فتاة أحسبها علي خير من المتحمسين . للاسف لم أملك أن أجيبها بشكل يرضيها . فالإشكالية التي تواجهنا اليوم أعمق من مجرد ترديد لتلك الديباجات المعتادة .
هناك حاليًا منظومتين فكريتين . هما لا يوجدان بالمناسبة بالشكل الاصم الذي سأذكره و لكنهما موجودين بشكل أنساني و يشوب كل منهما شائبة من الآخر . و لكن في النهاية نموذج منهما هو ما يغلب علي تفكير البعض .
الاول : هو أن المجتمع مستقل عن السلطة إلى حد معين , فهو لا يحتاج دائمًا لسلطة خارجية كي تقيم الامن و تحفظ النظام و تحافظ علي الحد الأدني من الأفكار العامة المتعارفة عند الجميع ( من تقييم الخطأ و الصواب ) فلأنه هناك حد أدني من الأفكار المتفق عليها , يمكن لأي شخص أن ينبه الآخر إن خرج عن القواعد أو الآداب المفترض ان التنبيه يكون باللسان و سلطة التغيير باليد او بالقوة هو المستوي الثاني الذي يحق للدولة ان تتدخل به . و هنا تكمن قوة المجتمع المفترضة .
الثاني : فكرة الحرية المطلقة , انت حر مالم تضر , و لا يجوز أن تقول رأيك إن لم يطلب منك و ليبقي كل مرء في شأنه فقط ولا يعنيه الآخرين ... فأن كان هناك خطأ فليس له أن يتدخل و لكن هناك دولة و هناك قانون و هناك معنيين بتنفيذ هذا القانون . أصحاب هذا التفكير لا يقبلون أي كلمة توجيه أو نصح أو ارشاد من شخص مثلهم لانه في نظرهم يظن نفسه فوقهم و يعطي لنفسه حق من حقوق الدولة/ السلطة . فهناك مختصين لابد من إحترامهم و إنتظارهم ليقيموا دورهم ولا يتعد أحد على تلك الأدوار .
كان النموذج الأول هو السائد لفترة من الفترات , و هو لم يزل سائدًا إلى حد ما في المجتمعات صغيرة العدد نسبيًا . و لكن تلاشى حاليًا لعدة اسباب ,
- منها انه لم يعد هناك هذا الحد الأدني من الأخلاقيات أو القيم الجامعة التي يتفق عليها الجميع , بل عمت القيم النسبية المجتمع ...و أصبح المجتمع ليس مجتمعًا بالمعني الذي كان متعارف عليه و لكنه أصبح شبيهًا بتجمعات منفصلة من السكان يعيشون بجوار بعضهم البعض و لكن لا يجمعهم أي قيم مشتركة ( سلفيين – إخوان – عسكريين – فئة رجال الأعمال و الإعلاميين – مسيحيين – مجتمع العشوائيات و الباعة الجائلين – بدو عرب – صعيديين – ساكني الوجه البحري و هناك من لا يجمعهم اي محيط ثقافي على الإطلاق و يوجههم العلام بإمتياز ... إلخ ) . و منها أيضًا ان المجتمع ( أو التجمع السكاني ) في المدينة لم يعد يعرف بعضه البعض فلم يعد من الممكن النصح و تقبل النصح من أشخاص أغراب لا علاقة لك بهم , إن فعلت ما يتنافي مع ما يظنونه القيم العامة . كل تلك السمات الجديدة جعلت من الصعب تنفيذ فكرة التناصح/ الأمر بالمعروف .
تلك العوامل و عوامل أخرى ألبست الفكرة صور تقليدية منفرة ... فغالبًا ما يسيطر الحماس و الغيرة على الحق ( أو ما يمكن ان نقول انه حق من وجهة نظرهم ) تجعلهم يندفعون للنصح بشكل غالبًا لا يقع موضع حسن عند المتلقي , و غالبًا يحدث ذلك بسبب ترويج وسائل الإعلام لنماذج أبعد ما تكون عن الفضيلة و القيم المثلي و لم يكن هذا الترويج مباشرًا بل كان بطيئًا متراكمًا عبر السنوات , و يواكب ذلك تجهيل و ضعف في التربية الدينية ( فلم يعد المجتمع كما ذكرنا بيئة مناسبة لتكون الفضاء العام للقيم , فلم يعد هناك فضاء عام مشترك للناس و لكن أصبحنا نعيش في تجمعات منفصلة من البشر غالبًا لا يجمعهم إلا أشياء إدارية بحتة و تعاملات تعاقدية ( رقم قومي أو جنسية مصرية او حي واحد في البطاقة او منافع تجارية أو خدمات ) لا يجعل من الممكن حدوث تبادل ثقافي مثمر . فنجد أنه لا توجد غالبًا ارضية مشتركة بين الناصح و من يتلقى النصح و يواجه بعداء أو علي أبسط الأحيان لا يلقي بالًا للنصيحة أو يكترث لها .
لذا , فمن المحبذ على الناصح أن يكون في داخل إطار مجتمعي إنساني , و أحسب أن الجامعة توفر هذا الأمر بشدة . يكون المرء في إطار إنساني يرى فيه ناس صحيح من أجل خدمة – الدراسة – و لكن طول العشرة يولد ألفة ما تُمكن البعض من إستغلال هذا الأمر للتناصح فيما بينهم . التناصح بشكل عام يحتاج لحصافة و ذكاء , فالنصيحة دائمًا ثقيلة على القلب خاصة إن كان الآخر محقًا في نصحه , فكم شخص يتحمل أن يواجهه الآخرين بأنه أخطأ ؟؟ الامر ليس بالشئ الهين علي النفس إذن .
لابد من وجود مساحة قرب إنساني أو إطار ما كي تكون النصيحة ( الأمربالمعروف ) ذات قيمة و معنى.
هناك من يأخذهم الكبرياء و يستكبرون علي النصيحة و لكنهم بينهم و بين أنفسهم يدركون خطأئهم , و يغيرون السلوك فيما بعد . لا يجب أن تتخذ النصيحة بعدًا ثأريًا و هذا عامة ليس بالشئ الهين خاصة في التركيبة المصرية النفسية التي غالبًا تتحفز للثأر لقلة ثقة الغالبية بأنفسهم . البعض قد لا يجمعه بالآخرين علاقة قوية فلا نجده يظهر إلا ليتصيد آخطاء الأخرين و ينصحهم دائمًا !!! و هذا أسوأ نوع يمكن أن يقدم نصيحة ... فقد تكون نواياه حسنة و غيرته علي الصواب و الحق و لكن الأسلوب سئ تمامًا و يظهره في مظهر متتبع العورات و متصيد الأخطاء .
إذن , لابد من وجود مساحة ما بينك و بين من تنصح كي يكون الأمر معتبرًا . المشكلة أن هذا الأمر له عدة عيوب منها أن المرء الذي لا يدقق في أصدقاؤه قد يصاب بعدوي إجتماعية لسلوكيات خاطئة كان يستنكرها بالأمس , فهل الحل ان ينكفئ المرء على من يشبهونه فقط و ينعزل ؟ أظن أن الأمر يحتاج لموازنات فلا ينكفئ المرء علي من يشبوهنه و فقط و لكن لا يفتح باب الصداقة لكل من هب و دب لان الرفقة السيئة ليست غاية بل مطلوب من المرء ان يتخير صحبته . و لكن ربما لابد أن يحاول كل انسان وضع معايير لا يتنازل عنها عند إختيار الصديق , و لابد أيضًا أن يكون واعي بدرجات قرب الناس من حوله فحتي إن وجد رغمًا عنه في مجتمع لم يختاره فعليه أن يحدد العلاقات حتي لا تصيبه بعض من سيئاتهم الإجتماعية فهي تتسلل ببطئ غالبًا لا ننتبه لها . فليس طول الصحبة هو من يجعل الناس اصدقاء لبعضهم البعض و لكن هناك تقاربات روحية عصية علي التصنيف و الوصف .
طول الصحبة و الألفة قد تولد نوع من إلف الآخطاء لدي الأصدقاء . فقد نتغاضي عن أخطائهم رغبة منا في عدم خسارتهم ... أعتقد أن هذا الأمر يعتمد بالأساس على نوع الخطأ فالصغائر غير الكبائر و هناك شخصيات سيئة محرضة على الخطأ و هناك من يفعله و هو يرغب في التوقف عنه , و الله أعلم ايضًا ما هو التصرف السديد فلا توجد روشته ثابته للتعامل مع السلوكيات الإنسانية دائمًة التغير . فالحكمة هي معرفة التصرف السليم في الموضع السليم و تغيير التصرف بحسب تغيير الظروف و الشخصيات .
نرى بعد إستعراض فعل الأمر بالمعروف أو التناصح ففي وقتنا الحاضر , أن الأمر لم يعد بإطلاقه و لكن تم حصره في اُطر معينة ليس لتقاعس من الناس و لكن لتغير الظروف . فهل فعلًا نحن مجتمع مستعد ليكون كلٌ في شائنه و لتقوم سلطات الدولة بمسؤوليتها ؟؟ تلك الفكرة قد تكون مستوردة من الغرب و قد تكون مناسبه لهم , و هي مناسبة للمجتمعات متعددة الهويات ... و لكن المشكلة الحقيقية لدينا هي : إنعدام الدولة بشكلها التقليدي في الغرب . فليست هناك مؤسسات قوية لتقوم مقام المجتمع القوي . المأساه أنه لم يعد لدينا حتي مجتمع قوي ولا أرضية حقيقية صلبة من القيم المشتركة التي قد تحل محل غياب الدولة . نحن الآن في اسوأ الحالات حيث اللا دولة و اللا مجتمع