طلبت ذات مرة من مجموعة ما كتابة مقال في موضوع معين , و تعلل البعض بأنه لا يمتلك موهبة الكتابة ... قلت في نفسي هذه مجرد حجة واهية , كنا في إمتحان اللغة العربية يكتب جميعنا موضوع التعبير و كان لا يمثل أي مشكلة , كما أن اللغة تتكون من 28 حرف و الكلمات محدودة مهما كثرت ... و تحت ضغط و بدافع العشم كتب الجميع .. و فوجئت بالنتيجة , الأمر يتعدي فعلًا مجرد حروف و كلمات مرصوصة بجوار بعضها البعض كما كنت أتصور !!!
و لمعرفتي و إقترابي من شخصيات من كتبوا كتب و لا تظنوا أني أبالغ , إستطعت أن أتلمس جزء من روح من أعرفهم محمولة علي الأوراق ...
الأمر إذن ليس مجرد كلمات صمات تُرص لتُنتج معني بشكل آلي , حتي و إن كانت الحروف محدودة و الكلمات محدودة و لكن الروح التي تحرك الكلمات و تستطيع أن تلمسها لا حد ولا حدود لها أبدًا ... ماذا يمكن أن نسمي هذا الأمر إذن ؟؟
إنها الموهبة ...الموهبة هو شئ يتميز به فرد ما عن الآخرين ببراعة يوجده من اللا شئ و يتفوق علي الآخرين في تلك النقطة تحديدًا, قد تكون تلك الموهبة ظاهرة , كخفة دم أو ذكاء إجتماعي , سرعة بديهة أو الشخصيات القوية التي يلجأ اليها الجميع , الشخصيات المتفهمة أو الحنونة أو الصبورة الدؤوبة ... قد تكون قدرة على تأليف ألحان موسيقية من العدم , يدندن اللحن مع نفسه ليجعله مسموعًا , فهو سمعه دون أن يكون موجودًا كما صاغ الكاتب المعاني التي كانت في ذهنه فقط ... قد تكون براعة معينة في تصور موديلات أزياء ما , أو مزج ألوان مع بعضها البعض لتعطي درجات جديدة متناغمه من الألوان , قد تكون قدرة علي تخيل أحداث و شخصيات و صور تنتج لنا قصة ذات قيمة معينه , و قد يكون في صياغة تصميمات معمارية جديدة و عمل مدارس جديدة و متفردة لتلبي إحتياج ما , قد تكون حتي براعة في التعامل مع الأرقام أو حتي إيجاد نظريات فيزيائية جديدة عن الحركة و السرعة و ما شابه أو حتي إختراع جديد معين ليتغلب علي مشكلة معينة ....
نعم أعلم أن هناك دراسات تقام ليتعلم المرء صفة معينه , و هذا التعليم هو عبارة عن تراكم من معرفة البشر في مجال معين يورثة جيل لآخر يضيف عليه و يهذب الموجود , و بالرغم من تلك العلوم الموجودة و لكن تظل الموهبة المتفردة ضرورية لإيجاد حالة إستثنائيه , نصقلها بالدراسة و لكن لا غني عن الموهبة الاساسية ...
و الإبداع في رايي المتواضع لا يقتصر على مجال الفنون فقط و لكن لكل مجال فنه أو لغته المبدعة المتفردة الخاصة به و التي يفهمها أهل هذا المجال .
يخيل لي أن تلك الموهبة جائت من العدم ... لأن هذا الشخص الذي برع في مجاله كان صاحب سبق معين , من أين جائت تلك الملكة ؟؟ تفكرت طويلًا في هذا الأمر ... وجدت أن معين العبقرية الأساسي هو القبس الإلهي الأول الذي منه خُلقنا , فالإنسان - كما نؤمن نحن المسلمون - خلقه الله بأن نفخ فيه من روحه و كان هذا تكريم ما بعده تكريم له . نحن فينا جزء إلهي , أعتقد أنه المسؤول عن الإيجاد من العدم الظاهري ( هو ليس عدم مطلق فهو معروف عند الله و لكنه عدم لنا نحن يمتن الله أن يظهره أول مرة علي من يشاء من عباده ) فهو المسؤول عن كل هذا الإبداع الذي يعج به عالمنا في شتى مجالات الحياة .
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ (29)
سورة الحجر
إني لأزعم أني أري جانب بسيط من جمال و عظمة البديع الخالق في جمال ما صنع خلقه .
إذن , لكل إنسان لديه شق رباني مقتبس من الروح التي نفخت فيه و شق أرضي من الطين الذي خلقنا منه , و الخلل دائمًا يقع عندما تغفل شق أو نتجاهل شق كأنه غير موجود .
هذه الفكرة لها الجانب التطبيقي الجميل لها و هي المخترعات و الإبداع البشري , و لكن لها التطبيق السلبي ايضًا و هىة تفسر لي بعض من سلوكيات البشر التي غمضت علي لفترة ما من حياتي . يبدأ الأمر في أن يتخذ شكل أن الإنسان شب عن الطوق و لم يعد يحتاج مرجعية خارجه ( فهو و نفسه هديت أم ضلت هو المرجعية و المحتكم ) فلابد أن يرضي عن كل ما يفعله حتي يكون إنسان سوى و إن أجبر نفسه علي فعل شئ (صواب ) و لكنه دون إرادته فهو منافق !!!
هذه صورة من صور إنكار الضعف الإنساني الذي قد يعتري البعض فيظن أن الكمال لرأيه هو و الصواب هو تنفيذ هذا الراي دون وجود مرجعية متجاوزة له ....
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا (43) الفرقان
صورة أخري أكثر تطورًا لهذه الصورة السلبية تظهر في كل المتجبرين أو الحائزين علي سلطة أو قوة معينة فوق عامة البشر هم مدعي إلوهية بصورة أو بأخرى , عذرًا إن كان هذا المعني صادم ... لماذا أقول ذلك ؟؟
لأن هذا الأمر شهوة من شهوات النفس التي لها أصل في التكوين البشري و إن لم تجحم لخربت الدنيا , لأننا نميل بالروح التي نفخت فينا من الله , أن نظن أننا آلهة ايضًا فعند حوز السلطة نظن أننا تغلبنا علي ضعفنا البشري و الإنساني ( المتمثل في الجسد الطيني و الجسم البشري الضعيف) و نحاول الإنطلاق , فكان إدعاء فرعون و النمرود بن كنعان أنهم آلهة من دون الله .
و حتي في عصرنا الحديث من يحوزون السلطة يتصرفون بتلك الطريقة - قد يكونوا أكثر دهاءً من فراعين الأمس في الا يأمروا الناس بعبادتهم بشكل مباشر و صريح فهم ادهي من أن يثيروا العامة عليهم بمثل تلك الإدعائات الجوفاء و لكن كل الافعال تشير أنهم لا يخشون أي قدرة فوقية و أنهم يظنون أنهم حازوا القوة النهائية و أنهم يتحكمون في مصائر البلاد و العباد ( و لنا في روايات معذبي أمن الدولة تجسيد لهذا الغرور بالسلطة الذي يودي بالعقل و يجعله يظن أنه إله و العياذ بالله ) و هذا هو في رايي السقوط المروع .
التوازن الحقيقي الذي يمكن أن يحوزه المرء هو أن يدرك ضعفه و مواطنه و يتعامل معها و يدرك مكامن قوته و يتعامل معها ايضًا إنكار اي من الجانبين قد يوقعنا إما في جمود أزلي أو في فوضي حقيقية .
الإعتراف بأن المرء يملك جسدًا ضعيفًا قد يكون له إحتياجات معينه إنسانية لابد أن يلبيها له بحدود معينه دون إفراط أو تفريط, يعطيه سلامًا نفسيًا فليس الجسد شئ مهمل مستقذر ولا هو محط و منتهي الإهتمام . و تذكرنا أننا موجودين في هذا الحيز الضيق يحجمنا دائمًا و يذكرنا بنقصنا البشري , فنحن مهما بلغنا لن يمكننا أن نتعد تلك الحيز المحدودين به , و الجميل أنه كلما إعترفنا بهذا الامر توازننا .
هذا هو التطبيق العملي لمقولة من تواضع لله رفعه . فالله هو الخالق و هو الخافض و هو الرافع و علي قدر ادائنا في الدنيا نعد المتاع لسفرنا القادم . نسال الله السلامة .